سورة غافر - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)}
يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه، يسير لديه- بأنه خلق السموات والأرض، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الاحقاف: 33].
وقال هاهنا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله خلق السموات والأرض، وينكرون المعاد، استبعادا وكفرا وعنادا، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا.
ثم قال: {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار، {قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ} أي: ما أقل ما يتذكر كثير من الناس.
ثم قال: {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} أي لكائنة وواقعة {لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون بها، بل يكذبون بوجودها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أشهب، حدثنا مالك، عن شيخ قديم من أهل اليمن- قدم من ثم- قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس، واشتد حر الشمس.


{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}
هذا من فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول: يا مَنْ أحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب.
رواه ابن أبي حاتم.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
اللهُ يَغْضبُ إن تركْتَ سُؤَالهُ *** وَبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغْضَبُ
وقال قتادة: قال كعب الأحبار: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تُعطهُن أمة قبلهم إلا نبي: كان إذا أرسل الله نبيا قيل له: «أنت شاهد على أمتك»، وجَعلتُكم شهداء على الناس. وكان يقال له: «ليس عليك في الدين من حرج».
وقال لهذه الأمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وكان يقال له: «ادعني أستجب لك»وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني، حدثنا صالح المري قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه عز وجل- قال: «أربع خصال، واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي: فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك عليَّ فما عملت من خير جزيتك به، وأما التي بيني وبينك: فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الكندي، عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
وهكذا رواه أصحاب السنن: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير، كلهم من حديث الأعمش، به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضا، من حديث شعبة، عن منصور، عن ذر، به. وأخرجه الترمذي أيضا من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، كلاهما عن ذر، به.
ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثني أبو مليح المدني- شيخ من أهل المدينة- سمعه عن أبي صالح، وقال مرة: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله، عز وجل، غضب عليه».
تفرد به أحمد، وهذا إسناد لا بأس به.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا مروان الفزاري، حدثنا صُبيح أبو المليح: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يسأله يغضب عليه».
قال ابن معين: أبو المليح هذا اسمه: صُبَيْح. كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد. وأما أبو صالح هذا فهو الخُوزي، سكن شِعَب الخوز. قاله البزار في مسنده.
وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي، عن أبي صالح الخُوزي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يسأل الله يغضب عليه».
وقال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمزي: حدثنا همام، حدثنا إبراهيم بن الحسن، حدثنا نائل بن نجيح، حدثني عائذ بن حبيب، عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لربكم في بقية دهركم نفحات، فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا».
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي وتوحيدي، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي: صاغرين حقيرين، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّرّ، في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم- يقال له: بولس- تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النار».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خُنَيْس: سمعت أبي يحدث عن وُهَيب بن الورد: حدثني رجل قال: كنت أسير ذات يوم في أرض الروم، فسمعت هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول: يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك! يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك- قال: ثم ذهبت، ثم جاءت الطامة الكبرى- قال: ثم عاد الثانية فقال: يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يُرضي غيرك. قال وهيب: وهذه الطامة الكبرى. قال: فناديته: أجني أنت أم إنسي؟ قال: بل إنسي، أشغل نفسك بما يَعْنيك عما لا يعنيك.


{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)}
يقول تعالى ممتنا على خلقه، بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار، وجعل النهار مبصرا، أي: مضيئا، ليتصرفوا فيه بالأسفار، وقطع الأقطار، والتمكن من الصناعات، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي: لا يقومون بشكر نعم الله عليهم.
ثم قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد، خالق الأشياء، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تعبدون غيره من الأصنام، التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة منحوتة.
وقوله: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله، كذلك أفك الذين من قبلهم، فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته.
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا} أي: جعلها مستقرا لكم، بساطا مهادا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي: سقفا للعالم محفوظا، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي: من المآكل والمشارب في الدنيا. فذكر أنه خلق الدار، والسكان، والأرزاق- فهو الخالق الرازق، كما قال في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 20] وقال هاهنا بعد خلق هذه الأشياء: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم.
ثم قال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: هو الحي أزلا وأبدًا، لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا نظير له ولا عديل له، {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال: لا إله إلا الله أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين، عملا بهذه الآية.
ثم روى عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: من قال: لا إله إلا الله فليقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين فذلك قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقال أبو أسامة وغيره، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير قال: إذا قرأت: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، فقل: لا إله إلا الله وقل على أثرها: الحمد لله رب العالمين ثم قرأ هذه الآية: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8